غياب الصباح: المسيرة الحافلة لعميد الدبلوماسية العربية

شيع سمو أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في يوم الأربعاء الماضي في جمع من أقاربه وبهدوء لافت فرضته إجراءات التباعد الاجتماعي، ولكن أنظار الخليجيين شخصت نحو الشاشات وهم يشاهدون آخر رموز النشأة السياسية الخليجية وعميد دبلوماسيتهم يغادرهم تاركاً إرثاً ضخماً من الإنجازات السياسية والدبلوماسية عز نظيره، وقد زخرت شاشات التلفزة ومقالات الصحف باستعراض إنجازات الراحل والحديث حول مناقبه ومواقفه المختلفة، وفي إطار هذا الزخم ربما مر المارون سريعاً على جزء مهم من إرث الراحل بدأ به مسيرته الدبلوماسية وختمها به، فالراحل منذ يوم الكويت الأول في الساحتين الإقليمية والدولية قاد جهود الوساطة الدولية في أصعب الملفات وأكثرها تعقيداً أخذته إلى أقاصي الأرض، وشاء المولى أن يكون آخر جهوده الدبلوماسية هو الوساطة في الأزمة الخليجية.


لو عدنا لستينيات القرن الماضي ومع تشكل الكيانات السياسية في المنطقة، نجد الشيخ صباح الأحمد يقود جهود الوساطة بين القاهرة والرياض بعد تفاقم الحرب في اليمن وينجح في جمع أطراف الأزمة لأول مرة على طاولة واحدة، وفي الفترة نفسها يقود جهود الوساطة مع إيران لإنهاء المطالبة بالبحرين وتنتهي جهوده بإعلان البحرين استقلالها عبر استفتاء شعبي، وفي العام الأخير من ذاك العقد أدار جهود وساطة بين العراق وإيران في إطار الخلاف الحدودي بين البلدين.


أما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي فبدأ سموه رحمه الله بجهود الوساطة بين إقليم البنغال والحكومة الباكستانية وعلى الرغم من استقلال البنغال في النهاية إلا أنه نجح في إعادة العلاقات بين البلدين، وتوسط في لحظة مأساوية في تاريخ المنطقة بين الأردن والمنظمات الفلسطينية على إثر أحداث أيلول الأسود، وعاد إلى اليمن للوساطة بين شطريه مجدداً، وتوسط بين ليبيا والرياض مما أعاد العلاقات بين البلدين، ثم توسط بين عمان واليمن الجنوبي إثر التوتر حول الحدود، وعاد للوساطة بين طهران وبغداد في إطار الحرب بين الطرفين، واختير رئيساً للجنة السداسية للوساطة بين الأطراف اللبنانية المنخرطة في الحرب الأهلية وكان نتاج عمل اللجنة هو الممهد أمام اتفاق الطائف، ناهيك عن الوساطة بين البعث العراقي والسوري إثر الخلاف بين القيادتين، والأردن وسوريا بعد التوتر بين البلدين، وحين توترت العلاقات بين الرياض واليمن الجنوبي كانت وساطة الفقيد حاضرة لخفض التصعيد، وحتى الأيام الأخيرة قبل الغزو العراقي الغاشم كان الفقيد يقود جهود الوساطة بين تركيا وبلغاريا لحل أزمة الأقلية التركية في بلغاريا.


ما إن عاجل الغزو الكويت الحاضرة إقليمياً ودولياً انكبت جهود الراحل على تحرير بلاده وكانت جهود السلام التي طاف بها سموه العالم رصيداً مهماً مكنه من قيادة جهود تشكيل التوافق الدولي لصد الغزو وإخراج المحتل، واستمرت جهوده في إعادة الكويت إلى مساحة التأثير الدولية وخاصة بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد حيث عادت الكويت إلى لعب دور محوري في قضايا المنطقة التي زادت تعقيداً، وبعد أن لعب سموه شخصياً دوراً حاسماً في كبح جماح أزمة سحب السفراء في عام 2014، انبرى في يوم الأزمة الخليجية الأول مدافعاً عن علاقات الأخوة وحق الجوار، ولن ينسى الخليجيون رحلاته المكوكية في رمضان الأزمة الأولى وإبرة المغذي مازالت مغروزة في يده متحاملاً على المرض يطوف بين العواصم الخليجية حتى نجح في تجنيب المنطقة ويلات المواجهة العسكرية، كما قال رحمه الله في مؤتمره الصحفي مع الرئيس الأمريكي عام 2017، وحتى اللحظات الأخيرة باشر سموه جهود الوساطة واهتم بها على الرغم من غياب فرص الحل وتعنت المتعنتين، وغادرت روحه الطاهرة هذه الدنيا وهو يدعو الأشقاء إلى تغليب صوت الحكمة وإعادة اللحمة الخليجية إلى سابق عهدها.


رحمك الله أبا ناصر كنت صوت الحكمة حين غابت وخطاب العقل حين علت أصوات العبث وعنوان الثبات حين مالوا عن الحق، هنا في قطر وهناك في الكويت المصاب واحد والخسارة واحدة والأمل بالله كبير أن تظل راية السلام التي رفعها سموه خفاقة، أصلها في الكويت وأثرها يجوب العالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أفغانستان بداية جديدة أم استمرار للصراع؟

“أوكيس” طعنة ثلاثية في الظهر الفرنسي

قمة أخرى...وشائعات جديدة