فكرة السير نحو الأقصى

قبل اثني عشر عاماً وفي مستهل مشواري مع الكتابة الصحفية نشرت مقالاً حول الحراك الشعبي والعمل الجماهيري وأدواته، في ذلك المقال ارتكبت الخطيئة التي أحاول تجنبها ما أمكن وهي توجيه النقد لسلوكنا عبر بوابة المقارنة مع سلوك غربي، كان السياق مرتبطاً بفعالية شهدتها خلال دراستي الجامعية وقفت فيها على الفرق الشاسع بين مجموعة عربية إسلامية وأخرى غربية في التعريف بالقضية الفلسطينية، الأولى أخذت شكل مهرجان خطابي ولوحات مرفوعة وعشرات من المشاركين الذين يرددون الهتافات، والثانية والتي أقيمت على أطراف الأولى ضمت ثلاثة أشخاص يقفون عند إشارة مرور كلما أحمرت يضعون حاجزاً خشبياً أمام السيارات المتوقفة ويعلنون لسائقيها أنهم يقفون أمام حاجز إسرائيلي يمنع الطفل من مدرسته والعامل من مصنعه وينتهك عنده كل حق إنساني، استثارني حينها المشهد لأن أثر هذا المشهد القصير كان أوقع على المارة والجمهور العام من أي مهرجان خطابي، بل ربما كان لذلك المهرجان أثر سلبي في السياق الغربي الذي أقيم فيه، ولذلك كان عنوان ذلك المقال "كيف نفكر، وكيف يفكرون".

مع التطور السريع في طبيعة الاتصال البشري زادت التحديات أمام النشطاء ومؤسسات المجتمع المدني وكل من يتبنى القضايا الإنسانية، فمثلاً كان يسهل استقطاب المئات والآلاف عبر المهرجانات والمسيرات الحاشدة نصرة لهذه القضية أو تلك كما كان ممكناً تكثيف الخطاب التعبوي بما فيه من لغة قوية ومتشنجة أحياناً، أما اليوم تقف القيود السياسية في العالم العربي وتحديات الجيل الجديد أمام استقطاب الجماهير لحضور هذه الفعاليات، كما أن عولمة الاتصال وضعت أمامنا تحدياً جديداً، الخطاب الذي تعودنا عليه وكان يستخدم في بيئاتنا أصبح اليوم تحت المجهر عالمياً، خطاب في مهرجان يقام في سياق عربي قد يؤدي لإغلاق حسابات التواصل الاجتماعي وإضعاف موقف القضية المراد دعمها في السياق العالمي، لذلك صار مثل ذلك الإبداع في الخطاب الذي شهدته قبل عشرين عاماً في غرب الولايات المتحدة ضرورة قصوى في عالم اليوم.

حيث إن القضية المركزية عربياً وإسلامياً والتي يتفق عليها الشارع العربي بمختلف مشاربه هي القضية الفلسطينية كان طبيعياً أن يشهد الحراك الشعبي المرتبط بها أبرز محاولات التحديث ومواكبة التطورات المختلفة، ولكن القلق آخذ في النمو خلال السنوات الأخيرة من تراجع الوعي بها شعبياً مع الأزمات المتلاحقة والتطبيع المتزايد، ولعل ذلك يجعل من تجربة "للأقصى سرينا" التي قامت عليها لجنة الأقصى التابعة للنادي الأهلي الرياضي في قطر مدعاة للفخر من حيث الفكرة والتنظيم والإنجاز، تزامناً مع اليوم الرياضي للدولة دعا المنظمون إلى تنظيم مسيرة افتراضية إلى الأقصى تمتد 1718 كيلومتراً وهي المسافة بين الدوحة والقدس، سجل المشاركون خطواتهم عبر الوسائط المختلفة وبعثوها إلى المنظمين لتصل المسيرة إلى هدفها سريعاً وتتجاوزه إلى 2300 كيلومتر ويعلن قبل نهاية اليوم عن بلوغ السائرين أعتاب المسجد الأقصى افتراضياً.

سجلت المبادرة مشاركات لأكثر من 300 شخص من الدوحة والكويت والجزائر والأردن وتركيا وكندا ولندن واسترعت اهتماماً إعلامياً محلياً وإقليمياً، جمال ونجاح المبادرة كان في بساطتها وقربها من الناس، لم تطالبك المبادرة إلا بأن تمشي أو تهرول أو تركض مستحضراً الرسالة الرمزية في السير نحو الأقصى الذي حرم منه ملايين المسلمين عبر العالم، الجميل هنا بشكل خاص هو وصول هذه الرسالة إلى جيل جديد عبر وسائطه بلغة تناسبه، ولو كتب لهذه المبادرة أن تتم على نطاق أوسع فلن يقف عثرة أمامها اختلاف الخطاب في الغرب أو الشرق أو ضغوط السياسة أو غيرها، بمثل هذه المبادرات تحيا القضايا العادلة في زمن أصبح الحشد لصالحها جريمة.

قد يقول قائل، وما فائدة هذه المبادرات وهي تخلو من ضغط سياسي أو جمع أموال ولا تهاجم عدواً أو تحرك جمهوراً، والرد هو أن نشر الوعي وإبقاءه حياً أهم في زماننا هذا من أي اعتبار آخر، دول ومؤسسات تعمل اليوم لإطفاء جذوة أي عمل يذكر بالقضية ويضعها في مكانها الطبيعي من دائرة الاهتمام وبالتالي نحن بحاجة إلى الوصول إلى أوسع قطاع ممكن من الجماهير برسالة عابرة للانتماءات والأفكار والحدود، ولا شك أن الأساليب التقليدية في توعية الشارع واستنهاض الهمم لها جمهورها وستبقى مع مرور الزمن، ولكننا اليوم أمام تحديات صعبة طبيعية ومصطنعة تحتاج من كل صاحب قضية أو داعم لها إلى سلوك سبل مختلفة والبحث عن وسائل جديدة لإيصال رسالته، المجموعة التي بادرت بالمسير نحو الأقصى سلكت طريقاً مميزاً وصلوا من خلاله إلى جمهور جديد بروح جديدة، ولا شك لدي أن هذه خطوة من خطوات ومبادرة تليها مبادرات، تحية لهم ولكل من شاركهم وبانتظار مزيد من الإبداع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أفغانستان بداية جديدة أم استمرار للصراع؟

“أوكيس” طعنة ثلاثية في الظهر الفرنسي

قمة أخرى...وشائعات جديدة