في انتظار الربيع

أكثر من عقد مرَّ على انطلاقة شرارة الربيع العربي، تلك الشرارة التي اشتعلت سريعاً لتطوف عديداً من العواصم العربية، راسمةً الهلع على وجوه استفادت طويلاً من نظام الاستبداد العربي، وزارعةً بذور الأمل في جيل صاعد لم يتسرب إليه اليأس بعد.

 وبعد مرور عشر سنوات، تبدو الصورة قاتمة؛ كل عواصم الربيع، من القاهرة إلى طرابلس ومن صنعاء إلى دمشق، عادت إلى أحضان الاستبداد، حتى تونس التي كانت تمثل النموذج في ثورات الربيع العربي تنتكس فجأة، من جرّاء الأزمة السياسية هناك ويعطَّل فيها عمل البرلمان وتعود الاعتقالات السياسية، فيما يبدو أنه مسمار أخير يُدقُّ في نعش الربيع.

على الرغم من أن تونس مرت بانتقال سلمي للسلطة أكثر من مرة وشهدت نوعاً من الاستقرار لم تشهده بقية عواصم الربيع العربي، فإن نظام ما بعد الثورة لم ينجح في تحقيق الطموحات العالية التي سطَّرتها ملاحم الثورة، مجتمع العدالة والمساواة والازدهار الذي حلمت به الشعوب صار سراباً وتلاشى تدريجياً مع إكراهات الأزمات السياسية والاقتصادية والمواجهات الحزبية وسيطرة رؤوس الأموال والتدخلات الخارجية على المشهد.

الوضع كان على مشارف الهاوية وجاءت التطورات الأخيرة رصاصة رحمة لنظام مختنق سياسياً، المتفائل يقول إن الوقت مازال مبكراً على الحكم على إجراءات الرئيس وإن الممارسة الديمقراطية وإن تعطلت فما زالت الفرصة سانحة لعودتها، فيما يشير المتشائم إلى الاعتقالات ورفع الحصانة والاستبداد بالمناصب وليّ عنق النصوص الدستورية، كل ذلك إرهاصات لتحوُّل استبدادي مكتمل الأركان.

ومن تساءل عن غياب الجموع التي خرجت تطالب بالحرية في ثورة الياسمين في 2011، عن مشهد اليوم جاءه الرد بسيل من الإحباطات من أداء القوى التي أفرزتها الثورة، الذين خرجوا في 2011 لم يخرجوا دفاعاً عن راية سياسية أو قيم نخبوية، خرجوا يطالبون برفع الظلم عنهم، بلقمة العيش التي حُرموا منها، وبالكرامة التي انتُهكت، أي نظام تفرزه ثورتهم لا يحقق لهم هذه الطموحات بحدها الأدنى سيفقد ثقتهم، بل ربما يصفقون للممارسات الاستبدادية حنقاً وسخطاً.

ليس ما يحدث استثنائياً، الثورة الفرنسية جاء في أعقابها الاستبداد الثوري ثم الإمبراطورية ثم الملكية مرة أخرى، ولكن الروح الثورية عادت بعد سنوات، لأن جذوتها لم تنطفئ، في بريطانيا أفرز ما سُمي بالثورة المجيدة سقوطاً مؤقتاً للملكية وانتصاراً للجمهورية، ولكن هذه الجمهورية سرعان ما تحولت لنظام مستبد عاد معه البريطانيون للملكية إلا أن سلطة الملك لم تعد إلى عهدها السابق بعد ذلك.

التاريخ ليس قصة طوبائية ببداية وعقدة ونهاية سعيدة، هو منحنىً متعرج من الصعود والنزول، فالدول والمجتمعات تتحرر وتنتكس، تزدهر وتفتقر، تتوسع وتنكمش، والتجارب الثورية تنجح وتتراجع، المهم هو أن تتعلم الشعوب الدروس من هذه التجارب فلا تكرر الأخطاء كلما سنحت الفرصة وبزغ فجر جديد.

ما زال قلب الربيع ينبض، ولو خافتاً، ما زالت إفرازاته تتفاعل وإن تراجعت مكتسباته، العالم العربي لا يودِّع اليوم الربيع العربي، بل يقف شامخاً وقد أنهكته الأحداث يتحين ربيعاً آخر، يبني على الأساسات التي وُضعت ويحقق الطموحات ولو بعد حين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أفغانستان بداية جديدة أم استمرار للصراع؟

“أوكيس” طعنة ثلاثية في الظهر الفرنسي

قمة أخرى...وشائعات جديدة