حرب اللقاحات بين الحقائق العلمية والمصالح السياسية

في مقال مطول حول الموضوع، نقلت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية تصريحاً لرئيس وكالة الأدوية الإيطالية يتناول تجميد استخدام لقاح أسترازينيكا المطور في أوكسفورد في عدد من الدول الأوروبية، نيكولا ماغريني قال في لقاء صحفي: "ليس هناك خطر، وعلى المستوى العلمي ليس هناك ارتباط، القرار كان سياسياً"، ماغريني والذي يمثل أعلى سلطة ترخيص للأدوية في إيطاليا لم يكن منفرداً في رأيه، فأكثر من مسؤول أوروبي في القطاع الصحي اعترض على قرار التجميد باعتباره غير مدعوم علمياً، وأن ما تم إثارته حول الحالات التي تعرضت لتجلطات دموية مختلفة لا يرقى للشك في مأمونية اللقاح حتى الآن، ولكن وعلى الرغم من ذلك اتخذ القرار السياسي بتجميد استخدام اللقاح الذي أدى إلى تأخير عمليات التطعيم، وبالتالي تأخير تحقيق المناعة المجتمعية المرجوة، ما لبثت الجهة المعنية في الاتحاد الأوروبي أن أصدرت قرارها الداعم للقاح، وتدريجياً عادت جميع الدول الأوروبية إلى استخدامه مرة أخرى، ولكن ونظراً للضجة التي أثيرت خلال فترة التجميد تأثرت عمليات التطعيم برفض أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين تلقي لقاح أسترازينيكا، هذا التردد حدا برئيس الوزراء الإيطالي ماريو إلى أن يعلن أنه سيتطعم بلقاح أسترازينيكا في محاولة لتهدئة المخاوف الشعبية، ولكن هل كانت هذه القرارات فعلاً سياسية أم أنها إجراءات تهدف للحفاظ على صحة المواطنين؟.

كمية التصريحات الساخطة من القطاع الطبي الأوروبي حول قرار التجميد والعودة السريعة عن القرار بعد ثبات مأمونية اللقاح دلائل واضحة على وجود مشكلة في القرار، على المستوى السياسي هناك مبررات داخلية وأخرى خارجية للقرار، على المستوى الداخلي فإن هذا اللقاح تحديداً حصل على سمعة سيئة أوروبياً بسبب انخفاض تكلفته ما جعله الخيار "الأرخص" بين اللقاحات المرخصة أوروبياً، وعندما أضيف إلى ذلك تركيز وسائل الإعلام على الأخبار حول حالات تعرضت لجلطات أو غير ذلك من المشاكل الصحية بعد فترة من تلقي اللقاح أدى إلى تكون انطباع عام في الشارع حول اللقاح، وتبدأ التساؤلات تثار حول مصداقية البيانات الحكومية التي كانت تؤكد على أن اللقاح آمن، لذلك كان القرار الألماني مبرراً داخلياً برغبة في تفادي السخط الشعبي الذي يمكن أن ينتج عن إهمال الأخبار المتداولة، وعلى الرغم من عدم وجود دعم علمي للقرار كان التجميد في الأساس خوفاً من أن تبدو الحكومة وكأنها تسوق لقاحاً غير آمن فقط لأنه أوفر، ومن ثم وحتى تدعم القرار التي اتخذته تواصلت المستشارة الألمانية ووزير صحتها مع عدد من العواصم الأوروبية الأخرى للدفع بأن يكون القرار جماعياً، هذا على الرغم من أن الجهة المعنية في الاتحاد الأوروبي لم تصدر قرارها حول هذا الأمر، فأخذت العديد من الدول الأوروبية ومنها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا قراراً مماثلاً.

خارجياً، فإن الشركة المصنعة للقاح، وهي بريطانية سويدية، سبق لها أن أذعنت لقرار الحكومة البريطانية إعطاء الأولوية في اللقاحات محلياً ما أدى إلى تأخر الشركة في تسليم أكثر من 60% من اللقاحات التي وعدت بها الدول الأوروبية، وفي إطار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنتج ذلك أزمة بين الحكومات الأوروبية ولندن، كما أن ذلك كان له دور في سرعة اتخاذ قرار التجميد باعتبار أن هذه الشركة من حيث المبدأ ليست أوروبية ومعرضة لضغط بريطاني مباشر، ولكن عدم قدرة منتجي اللقاحات عالمياً على تلبية الطلب يجعل من منتجها خاصة مع اعتبار سعره وعدم حاجته لتبريد خاص ذا أهمية خاصة، ولذلك ضغطت الدول الأوروبية على الشركة مرة أخرى لزيادة كمية اللقاحات المستلمة أوروبياً بعد قرار التجميد، هذا الصراع ليس بعيداً عن طريقة التعامل مع اللقاحات الصينية والروسية وإن كانت هناك مبررات أكثر علمية لعدم اعتمادهما.

انتهت أزمة تجميد استخدام اللقاح أوروبياً التي أخرت جهود تحقيق المناعة المجتمعة لأسابيع وربما لأكثر من ذلك، وربما تكون الحكومات الأوروبية قد حققت أهدافها السياسية، أما الاعتبارات الإنسانية المرتبطة بأن كل تأخير يساوي ارتفاعاً في عدد الوفيات ليست بالضرورة حاضرة في عملية اتخاذ القرار حين يتعارض ذلك مع ضمان أصوات الناخبين، هذا نموذج محدود لعمليات اتخاذ القرار السياسي واعتلال الأولويات فيها، ليس في هذه الجائحة فقط، بل إن الملايين من الأرواح فقدت في حروب مختلفة، لأن طرفاً ما خاف من خسارة سياسية داخلية، ومجاعات راح ضحيتها الآلاف كانت نتيجة لرفض حكومة ما تقبل معونات خارجية للحفاظ على كرامة الدولة، في كل هذه السياقات هناك مشترك واحد وهو الاتجاه نحو خسارة إنسانية محققة لتفادي خسارة سياسية مجهولة، صون حياة المواطنين أهم أدوار الدولة، لذلك تحسن تلك الحكومات التي لا تلتفت إلى ضجة إعلامية أو جدل اجتماعي طالما أن لديها المستند العلمي في تعاملها مع الجائحة ومع مختلف التحديات الصحية وغيرها التي تواجه العالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أفغانستان بداية جديدة أم استمرار للصراع؟

“أوكيس” طعنة ثلاثية في الظهر الفرنسي

قمة أخرى...وشائعات جديدة