قطر في واشنطن


عدت للتو من رحلة استمرت أسبوعاً إلى العاصمة الأميركية واشنطن، بالنسبة لمختصي العلوم السياسية تمثل هذه المدينة حالة استثنائية تجعلها عاصمة السياسة في العالم، في كل زاوية منها هناك مؤسسة سياسية أميركية، أو دولية، أو مركز أبحاث، أو مقر إحدى شركات العلاقات العامة التي تتعاقد معها مختلف جماعات الضغط، لتحقق أهدافها لدى الكونجرس والحكومة الأميركية، كل ما في واشنطن هو سياسي بامتياز.


قطر ولسنوات طويلة لم يكن لها وجود كبير في واشنطن، مقارنة بسفارات الدول المجاورة كانت سفارتنا دائماً متواضعة حجماً، وانشغال قطر بملفات مختلفة حول العالم لم يماثله تركيز جهود في واشنطن لكسب المشرعين والرأي العام الأميركي، العلاقات القطرية الأميركية كانت متميزة دوماً مع المؤسسات الرسمية الأميركية، وخاصة الدفاع والخارجية، ولكنها لم تكن تتعدى ذلك إلى المناخ السياسي الأميركي بشكل عام، وكل ذلك تغير طبعاً مع انطلاق الأزمة الخليجية، واستغلال المحاصرين للوبياتهم في واشنطن، لكسب موقف مؤيد هناك ولتشويه سمعة قطر.
منذ الصيف الماضي نشطت مختلف مؤسسات الدولة في تغيير الصورة في واشنطن، فلا يمر شهر لا يتواجد فيه وفد قطري رسمي هناك في مهمة مرتبطة بتعزيز العلاقات القطرية الأميركية، أو مواجهة حملة التشويه والضغط التي يخوضها المحاصرون، وخلال الأسبوع الماضي تواجد في واشنطن 5 وزراء، وعدد كبير من المسؤولين الحكوميين القطريين، في إطار الحوار الاستراتيجي الأول بين البلدين، وحقيقة لا بد من كلمة شكر وتقدير لفريق السفارة هناك، والذي وبالرغم من قلة عدده، إلا أنه يقوم بمجهود جبار في تنسيق هذه الزيارات وضمان فاعليتها، بالإضافة إلى الاستمرار في الجهود اليومية للسفارة لتعزيز صورة قطر في واشنطن، التقيت هناك عدداً من الدبلوماسيين القطريين الشباب الذين لا يغادرون مبنى السفارة إلا في وقت متأخر من الليل، ويمكنك أن تلحظ في حديثك معهم حرصهم وشغفهم بعملهم، وإدراكهم تفاصيل الوضع في أكثر مدينة معقدة سياسياً في العالم.
بطبيعة الحال الوضع اليوم أفضل بكثير مما كان عليه سابقاً هناك، الآن هناك عمل مضاد قطري لحملات التشويه بدأ يؤتي أكله، والحوار والاتفاقيات التي وقعت تمثل نقلة في العلاقات، وعلى حد تعبير أحد المسؤولين الأميركيين السابقين في لقاء جمعني به، فإن الاستقبال الذي حظي به الوفد القطري والتصريحات الأميركية الإيجابية لا يمكن مقارنتها بأي وفد سابق لدولة أخرى، وحتى البيت الأبيض تغير نسبياً تجاه قطر، فهناك قبول أكبر للتعامل مع الوفود القطرية، ومناقشة الرؤية القطرية، ودفع بأنه لا بد أن تحل الأزمة بشكل أو بآخر.
وهنا طبعاً يطرح السؤال الدائم حول رغبة الولايات المتحدة في إنهاء الأزمة، وأريد أن أؤكد هنا على أن فرضية أن موقف واشنطن من الأزمة هو مجرد توزيع أدوار، وأنها مؤامرة كبرى للحصول على تنازلات من مختلف الأطراف، هو أمر غير صحيح إطلاقاً، وحتى نثبت ذلك يكفي أن نبتعد قليلاً ونشاهد الصورة الكاملة لما يجري في واشنطن، بعيداً عن أزمة الخليج، هناك ارتباك عام وشلل في واشنطن ناتج عن طبيعة إدارة ترمب، واختلال في العلاقات مع الحلفاء قبل الأعداء، المؤسسات الأميركية تعاني على مختلف الصعد، فهناك كم كبير من الاستقالات في أوساط الكوادر البيروقراطية الأميركية، القرار بدعم الحصار ابتداءً كان قراراً شخصياً لترمب، ثم موقف يمثل دائرته القريبة، بقية المؤسسات الأميركية كانت ضده ليس حباً في قطر، ولكن لأن الحصار يؤثر سلباً على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة العسكرية التي ترتكز على استقرار المنطقة، والتعاون المشترك بين دولها على الصعيد العسكري، صحيح أن الولايات المتحدة استفادت من خلال هذه الأزمة عبر الاتفاقيات والعقود، ولكن المزاج العام في واشنطن هو القلق من موقع واشنطن عالمياً مع حلفائها، والذي يجعلها تبدو وكأنها غير قادرة على ضبط سلوك حلفائها، ولا تحقيق مصالحها عبرهم، بالنسبة للمحاصرين ليس هناك ضغط له تأثير عليهم إلا من واشنطن، ولذلك فإن قمة مايو المرتقبة بين القادة وترمب تشكل ضغطاً مقلقاً عليهم سيسعون لتخفيفه، عبر تخريب جهود عقد القمة بأي شكل كان، واشنطن اليوم في حالة ارتباك تجعلها أضعف دبلوماسياً وسياسياً، ولكنها تبقى الطرف الأقدر على وضع حد لهذه الأزمة، أو على الأقل حلحلة أجزاء منها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أفغانستان بداية جديدة أم استمرار للصراع؟

“أوكيس” طعنة ثلاثية في الظهر الفرنسي

قمة أخرى...وشائعات جديدة